Digital resources in the Social Sciences and Humanities OpenEdition Our platforms OpenEdition Books OpenEdition Journals Hypotheses Calenda Libraries OpenEdition Freemium Follow us

التراث الثقافي السوداني بين مخاطر الحرب والغياب المؤسسي الفاعل

أحمد حسين عبد الرحمن – قسم الآثار – جامعة الخرطوم باحث زائر _ معهد الدراسات عبر الإقليمية _ برلين _ ألمانيا

Abstract: This text is a summary of a paper presented by Ahmad Adam on November 9, 2024 at the 27th Arab Archaeologists Union Conference in Cairo. It examines the impact of war and political instability on Sudan’s cultural heritage. Sudan, a country with a rich and diverse historical legacy, has faced repeated conflicts that have endangered its archaeological sites, museums, and intangible heritage. His text assesses the current situation in war-torn Sudan, highlighting the destruction, looting, and neglect of key heritage institutions, including the National Museum of Sudan, the Ethnographic Museum, the Khalifa House Museum, and regional archaeological sites. It also addresses the absence of effective institutional protection and the challenges posed by the 2023–armed conflict. Additionally, he explores ongoing efforts to safeguard Sudanese heritage, emphasizing the role of local and international collaborations, digital documentation, and community-driven initiatives. It calls for urgent action to document, preserve, and protect Sudan’s cultural assets amid the ongoing crisis.

تمهيد

جاءت مشاركة الباحث ضمن فعاليات مؤتمر اتحاد الاثاريين العرب حيث نشأ هذا الاتحاد في عام 1997م، تحت مسمى “جمعية الآثاريين العرب”. بغرض جمع الاثاريين العرب في منظومة علمية بحثية واحدة، واستطاع في سنوات قليلة أن يحقق منظومة فريدة، من خلال اعتماد استراتيجية تعتمد على إيجاد رؤية عربية شاملة تخدم الباحثين في مجال الآثار، ويعمل تحت مظلة جامعة الدول العربية. وقد عرض المؤتمر ضمن قضاياه الأثرية لهذا العام مخاطر ومهددات التراث الثقافي في السودان، بالتركيز على ما آلت إليه حالة الآثار والمتاحف بالسودان من جرّاء الصراعات المسلحة وأعمال النهب والسرقة، كما تناول المؤتمر قضايا في مجالات عديدة، شملت عصور ما قبل التاريخ والنقوش والرسوم الصخرية، الآثار والحضارات القديمة والإسلامية، استخدام الذكاء الإصطناعى في مجال علوم الآثار والمتاحف والترميم، علم المتاحف والحفائر والآثار الغارقة، مخاطر التغييرات المناخية على المواقع والمباني الأثرية.

(تصوير أحمد آدم) الجلسة الافتتاحية للمؤتمر السابع والعشرين للاثاريين العرب. القاهرة. نوفمبر 2024

كذلك تم انتخاب مجلس ادارة جديد لاتحاد الاثاريين العرب بمشاركة أعضاء الاتحاد من الدول الاعضاء من الوطن العربي، حيث تم انتخاب الباحث عضواً لمجلس ادارة الاتحاد لدورته الجديدة بدايةً من نوفمبر 2024 ممثلاً للسودان، وقد شارك وفد كبير من السودان شمل عدد من اساتذة الجامعات والباحثين وممثلي هيئة الاثار السودانية بعدد من الاوراق البحثية، بلغ عددها 8 اوراق بحثية تناولت شتى المواضيع البحثية، حيث تركز معظمها عن اثر الحرب والنزاعات على التراث السوداني وكيفية ايجاد الحلول المناسبة للحفاظ عليه مستقبلاً. وقد ناقشت توصيات المؤتمر بصورة رئيسية مخاطر طمس الهوية العربية في مناطق الصراع المسلح، بصفة خاصة غزة ولبنان والسودان وأمّن المؤتمرون من خلال التوصيات الى ضرورة حماية الآثار من التدمير أو النهب، ومحاولة تسجيل التراث الحضاري غير الملموس في هذه الدول، كما أوصى بتخصيص جميع المنح البحثية للماجستير والدكتوراه لهذا العام في مجال توثيق وترميم الآثار والتراث في قطاع غزة ولبنان والسودان.

التراث الثقافي السوداني بين مخاطر الحرب والغياب المؤسسي الفاعل

السودان بلد متنوع ثقافيًا وله تاريخ عظيم، وتراث أثري غني، حيث شهد خلال تاريخه الطويل قيام واحدة من أقدم الحضارات في العالم. وكان بمثابة منطقة اتصال بين شعوب جنوب الصحراء ووسط أفريقيا، والبحر الأبيض المتوسط، والعالم العربي. وقد هيمن نهر النيل وروافده على الجزء الأوسط من البلاد حيث تطورت على ضفتيه كل أشكال الحياة، (النور:2006). ويعود الاهتمام بالسودان على الأقل إلى القرن الخامس قبل الميلاد من خلال معلومات الكتاب الكلاسيكيين لا سيما هيرودوت وبعض المؤرخين والجغرافيين الكلاسيكيين. (مسعد: 1972). ويمتد تاريخ السودان زمنيًا من عصور ما قبل التاريخ، ثم مملكة كرمة، ثم مملكة كوش، التي تضم العصرين النبتي والمروي، ثم العصور الوسطى والفترة الإسلامية ثم تاريخ السودن الحديث (رايزنر1919 :35-67). ويتوزع التراث السوداني في جميع أنحاء العالم، مع تركيزات خاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية. فضلا عن التراث غير المادي ذو التنوع الكبير والمتفرد في عدة جوانب، مثل الأدب والتراث الشعبي والقصص والألعاب الشعبية وغيرها، والتي لها جذور تاريخية في الثقافة السودانية (آدامز: 1977). ونتيجةً لقيمتها الحضارية والثقافية العالية والمتميزة، فقد ادرجت ثلاث مواقع في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي العالمي، وهي مواقع جبل البركل التي تتضمن قبوراً مزوّدة بأهرامات بالإضافة الى معابد وأبنية سكنية وقصور. كذلك مواقع جزيرة مروي مقر مملكة كوش التي كانت قوة عظمى بين القرنين الثامن والرابع قبل الميلاد.

بالاضافة إلى المحمية البحرية في سنجنيب التي تضم تجمعا للشعاب المرجانيّة في البحر الأحمر، وبها مجموعة متنوّعة من الشعاب المرجانيّة ونباتات ساحلية وبحريّة وشواطئ. ومجموعة من الطيور والثديات البحرية. فضلا عن مواقع عديدة في القائمة التمهيدية لليونسكو مثل كرمة وسواكن ودنقلا العجوز وعدد من المواقع التاريخية في كل انحاء السودان.

السياق التاريخي للصراعات وتأثيرها على التراث السوداني

السودان بلد ذو تاريخ طويل من الصراعات الممتدة، والتي تأثرت بعوامل سياسية، اقتصادية، اجتماعية، وعرقية ابرزها الصراع الاثني وصراع الموارد، الشيء مما أدى إلى نشوب حروب سياسية طاحنة، أبرزها تلك الحروبات التي دارت بين الممالك الإسلامية الأولى في السودان، مثل مملكة الفونج ومملكة الفور ومملكة المسبعات ومملكة تقلي. إلا أن ابرز الصراعات والحروب الأهلية ما ظل يدور في السودان الحديث بحدوده الجغرافية، التي تشمل دولتي السودان وجنوب السودان. فمنذ استقلاله عن حكم المستعمر البريطاني في عام 1956، عانى السودان من نزاعات داخلية متكررة أثرت بشكل كبير على استقراره السياسي والاقتصادي، مما انعكس سلبًا على التراث الثقافي والأثري للبلاد. ويأتي في مقدمتها  الحرب الأهلية الأولى (1955-1972)، التي بدأت قبل استقلال السودان واستمرت حتى اتفاقية أديس أبابا عام 1972. وكان الصراع بين الحكومة المركزية في الخرطوم والحركات المسلحة في جنوب السودان، وفي واقع الأمر لم تؤثر تلك الحرب كثيرًا على التراث الأثري آنذاك. أما الحرب الأهلية الثانية والتي كانت ما بين (1983-2005)، فقد اندلعت بسبب إلغاء اتفاق الحكم الذاتي للجنوب وتطبيق الشريعة الإسلامية، مما أدى إلى تصاعد النزاع. تلى ذلك حرب دارفور التي بدأت منذ عام (2003 حتى الآن)، وهي نزاع بين الحكومة السودانية والجماعات المسلحة في دارفور، وكان للميليشيات المسلحة دور في تدمير المعالم الثقافية والتاريخية، خاصة في المدن الكبرى مثل الفاشر ونيالا. تلى ذلك الصراع بين حكومة الشمال وإقليم جنوب السودان والتي قادت الى انفصال جنوب السودان وتكوين دولة حديثة في العام 2011.

الجلسة الافتتاحية للمؤتمر (:المصدر: خاص)  

الحرب الحالية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ( أبريل 2023 – حتى الآن)

اندلعت مؤخراً حرب كبيرة في السودان (حرب أبريل 2023) وتعد الاقسى في تاريخ الحروب التي اندلعت بالسودان، حيث شمل القتال معظم انحاء السودان بدءاً من الخرطوم ودارفور ثم تحول إلى أنحاء عديدة من السودان. مما أدى إلى مقتل الالاف شخص، واصابة ونزوح وتشريد ملايين الاشخاص للدول المجاورة، وقد بدأت بالعاصمة الخرطوم التي تحتوي على عدد من مراكز التراث الثقافي وبها العدد الاكبر من متاحف السودان. وقد أثارت الحرب التي اندلعت في السودان إدانة كبيرة واهتمامًا إعلاميًا وعالمياً وإقليمياً مع اقتحام الحرب لجميع مراكز التراث الثقافي، مثل المتاحف والمواقع الأثرية والتراثية وما إلى ذلك، فأصبحت هدفًا للهجمات، وتم حشد السلاح بداخلها وما حولها. ومثلما يمكن أن يؤدي تدمير التراث الثقافي إلى نشوب الصراع، فإن حمايته يمكن أن تكون بمثابة محرك للحل والتعافي بعد الحرب، حيث يتطلب الاستعداد العسكري والحفاظ على الحياة ولفهم دور التراث الثقافي في زمن الحرب. ومع اندلاع الحرب في أماكن مختلفة حول السودان، فقد تعرض التراث الثقافي لخطر الضياع التام، فكان لابد من إلقاء الضوء على هذه المخاطر ووضع خطة عاجلة لحماية المواقع والقطع الأثرية المهددة بالانقراض، والتي تمثل جزء من الهوية المحلية والتراث العالمي. وبالتالي هدفت الدراسة إلى الإجابة على سؤال لماذا يعتبر الحفاظ على التراث الثقافي السوداني مهمًا في خضم أزمة إنسانية؟ وكيف يعمل علماء الآثار المعرضون للخطر والعاملون في المجال الثقافي في بيئات خطرة وغير مؤكدة؟ وكيفية إعادة بناء التراث الثقافي وزيادة الوعي بأهميته في أوقات الحرب والأزمات.

ومع احتدام الصراع، فقد تعرضت العديد من مكونات ومصادر التراث الثقافي المادي وغير المادي في معظم أقاليم السودان، خاصة العاصمة الخرطوم، في مقدمتها متحف السودان القومي وادارة الاثار والمتاحف، ومتحف بيت الخليفة عبد الله، ومتحف التاريخ الطبيعي، ومتحف القصر الجمهوري، وغيرها من المتاحف الوطنية والخاصة، بجانب أرشيف دار الوثائق القومية السودانية الذي يعد الأكبر في أفريقيا، وكذلك عدد من المكتبات الجامعية والتاريخية التي تعرضت للدمار والتخريب. بجانب تدمير ونهب ممتلكات عدد من المتاحف الولائية، مثل متحف نيالا ومتحف السلطان علي دينار بالفاشر ومتحف التراث في ودمدني. وقد امتد هذا التأثير للمواقع الاثرية والتراثية التي تقع بعيدا عن دائرة الحرب وذلك بسبب توقف العمل والصيانة الدورية بسبب ضعف وانعدام التمويل وعدم توفر الكادر البشري. وقد ظل هذا الصراع يُلقي بظلاله الثقيلة على أغلب الملفات التنموية في البلاد؛ إذ أدت العمليات العسكرية المستمرة في العاصمة الخرطوم، وعدد من الأقاليم والمدن السودانية، إلى توقف نشاط وحركة الإنتاج والتوريد، وحركة النقل البري بين العاصمة وكافة الأقاليم السودانية، علاوة على تعطيل حركة الطيران والملاحة الجوية والنهرية في السودان. كما شهدت الحركة التعليمية توقفًا كاملًا في معظم مناطق التوتر في مراحله الأولى جراء عمليات القصف المدفعي، ولقيام مليشيا الدعم السريع باحتلال المؤسسات التعليمية واتخاذها مراكز وثكنات عسكرية, بالتالي، أغلقت المؤسسات العلمية والثقافية والفنية والترفيهية أبوابها، بعد أن تعرضت لعمليات النهب والتدمير. أثرت هذه الاوضاع بشكل مباشر على الموروث الثقافي المتنوع والمنتشر في العديد من مدن وأقاليم السودان، آذ تعرض للعديد من المخاطر المباشرة، في ظل غياب تام للمجتمع الدولي مثل منظمة اليونسكو ومنظمات المجتمع المدني المختلفة.

المخاطر التي واجهت وماتزال تواجه المواقع الاثرية والتراث السوداني

أولاً: عندما اندلعت في ابريل فقد نسي العالم تراث السودان بشكل كامل. ولم يحظ بنفس رد الفعل أو الصراخ الذي حظي به تراث العراق قبل غزو حرب الخليج عام 1990. ولا تراث مالي عام 2012، ولا تراث سوريا عام 2015. ولا الاهتمام الذي حظيت به أكرانيا مؤخراً. لا توجد كلمات يمكنها التعبير أو وصف جرائم الحرب المروعة والفظيعة التي ارتكبت بحق الشعب والتراث في السودان. ولا يفهم الجميع أن التدمير مخالف للقانون الدولي. هذه الكارثة والتي انفجرت منذ أكثر من عام وما زالت وحشية ضد شعب السودان والتراث الثقافي. فهي تمثل محو كامل لذاكرة الأمة وهويتها. بالتالي سعينا الى استكشاف تأثير الحرب على التراث الثقافي (المادي وغير المادي)، وعلى المجتمعات. وقد تم التعرف على العديد من التعديات على التراث الثقافي والمتاحف في السودان تمثلت في الاتي: 

احتلال بعض المواقع من قبل مليشيا الدعم السريع في الخرطوم والاقاليم، فقد حدث تدمير ونهب بصورة كبيرة، خاصة في مواقع ولايات الخرطوم ونهر النيل والشمالية وكردفان، تشمل السطو والبناء العشوائي، كما تحوّلت بعض المواقع إلى ساحات اشتباك بين الجيش والدعم السريع، بعد أن تسللت قوات الدعم السريع إلى موقع النقعة والمصورات المسجل ضمن التراث العالمي.

كما احتلوا جبل موية، احد اهم مواقع ما قبل التاريخ في وسط السودان وافريقيا الذي وجدت به أحد أقدم ادلة استئناس الذرة (براس وآدم: 2018: 41)، كذلك سرايا ويلكم فقد تحول إلى ثُكنة عسكرية، ومن المعالم الآثرية المهمة التي تم التعدي عليها موقع القصر الجمهوري القديم، والذي بُني في العام 1830، واكتسب زخمًا تاريخيًا نظرًا لرفع علم الاستقلال على ساريته، وقد اندلعت فيه بعد ذلك النيران أكثر من مرة. كما ورد في بعض المواقع انه تم زرع ألغام أرضية عدة مواقع حيث تتعاظم المخاوف، ليس من القتال والمعارك الحربية، بل يمكنها أن تؤثر بصورة كبيرة في الصروح والمعابد الأثرية

وهناك مجموعة من القطع الأثرية بمنزل البعثة الألمانية أصبح معرضاً للنهب، تجري الآن جهود حثيثة بالتنسيق مع الجيش لإخراجها من هناك ونقلها إلى مكان آمن .

ثانياً: أثر عدم الاستقرار على العمل المؤسسي، حيث توقف التمويل والدعم المالي للمتابعة في المواقع وصيانتها من قبل الهيئة العامة للآثار والمتاحف. بجانب أن إيرادات وعوائد السياحة تذهب كلها لخزانة حكومة ولاية نهر النيل دون حصول المواقع على نصيب لصيانتها وحمايتها، تواصلت المساعي دون جدوى طوال فترة غياب المشروع القطري.

ثالثاً: التهديدات الناجمة عن تعدين الذهب، مثل ما حدث في موقع مراغة ومواقع اخرى. كذلك تمكّن مجهولون من نبش عدة مقابر بجزيرة صاي شمال السودان، أيضاً الزحف السكاني والعمراني على المواقع الاثرية حيث شيدت منازل جديدة حول المواقع مع هجرة السكان من العاصمة للأقاليم.

رابعاً: تعرّضت بعض المواقع للتصحر، وغطتها الرمال نتيجة للإهمال الذي ظلت تتعرض له طوال عام من الحرب، لغياب المراقبة وتوقف تدابير الصيانة الوقائية المرتبطة بنظافة الأملاح التي بدأت تتسبب بتآكل جدران المعابد، كذلك نموء الحشائش والاشجار الضارة إلى جانب تزايد عمليات الزحف الصحراوي، مما يعني خطراً متزايداً يهدد المعابد والأهرامات ومحو وتآكل النقوش والرسومات على جدرانها. كما أن الفيضانات تزيد الوضع سوءا حيث أدت إلى إتلاف كثير من المواقع الاثرية. وكانت هيئة متاحف قطر موّلت العديد من المشاريع لإنقاذ وترميم عدد من المواقع في السودان ونفّذت بها مشروعًا لترميمها ووقف زحف الرمال، إلا أن الموقع تعرّض لعدد من الأضرار مؤخراً.

خامساً: تعرّضت دار الوثائق السودانية لأضرار كبيرة، وربما تدمرت. فهي ذاكرة السودان حيث تضم 3 ملايين وثيقة لحقب مهمة من تاريخ السودان. كما تعرّضت مكتبة محمد عمر بشير للدراسات السودانية بجامعة أم درمان الأهلية للتدمير، وكانت تضم مخطوطات ووثائق نادرة. كذلك مبنى “جراب الفول” الذي شيّده محمد سعيد باشا سنة 1883م، بمدينة الأبيض. هذه على سبيل المثال فقط وليس الحصر التام الذي لا يمكن ان يتم في ظل هذه الظروف

المخاطر التي توجه المتاحف السودانية

اتجهت الأنظار للمتاحف في الخرطوم والتي تقع في قلب مناطق النزاع، وعلى رأسها متحف السودان القومي الذي بات في دائرة الصراع منذ بداية الحرب. تعرض لأضرار كبيرة، خاصة سقف الهيكل المعدني الذي يقع في الحديقة. وليس لدينا حصر بها، كما دُمر معمل بحثي في المتحف. لقد اقتحمت مليشيا الدعم السريع مختبر الآثار البيولوجية وكشفت عن المومياوات الطبيعية والبقايا البشرية مدعية أن النظام الإسلامي السابق قتل أعداءه واحتفظ بهم هنا. فقواعد البيانات ليست مخزنة في أماكن آمنة. وليس لدينا صورة واضحة عن الأضرار التي لحقت بالمتحف الإثنوغرافي بالخرطوم الذي افتتح في عام 1956م، وكان ناديًا للجنود الإنجليز، ويضمّ مقتنيات من كل السودان تعكس التنوع والتراث القبائلي، خاصة الملابس وأدوات المطبخ والعملات. كما طالت يد التدمير أيضًا متحف التاريخ الطبيعي الذي تعرّض لأضرار كبيرة؛ وهو يضم حيوانات نادرة قتلها الجوع والعطش، وأخرى محنطة منقرضة، وبذور نباتات وعينات لصخور وأعشاب نادرة. أما متحف بيت الخليفة في أم درمان – وهو مقر إقامة الخليفة عبدالله الذي خلف المهدي، الذي بُني الطابق الأرضي منه كسكن عام 1888م، والطابق العلوي 1891م وتحول لمتحف عام 1928م فتعرض المتحف لعملية تخريب وسرقة شملت معظم محتوياته التي تؤرخ لحقبة المهدي وخليفته. شهد المتحف قبل الحرب عملية ترميم وتأهيل من صندوق الحماية الثقافي بالمجلس البريطاني. كما تعرض متحف نيالا في ولاية جنوب دارفور لتدمير جزئي وأصابته أضرار بالغة، وكذلك متحف السلطان بحر الدين في الجنينة غرب دارفور حيث وردت معلومات مؤخرا بانها سرقت. يوجد كذلك بالخرطوم بحري المتحف الحربي، الذي يضمّ عشرات المقتنيات الحربية والعسكرية النادرة، من أزياء وأسلحة تؤرّخ لحقب عسكرية مختلفة.

سرقة متحف السودان القومي وعرض مقتنياته للبي

تعرض متحف السوداني القومي لسرقة كثير من مقتنياته الأثرية والتي تم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة معروضة للبيع عبر الإنترنت وعلى الشريط الحدودي بين السودان وجنوب السودان،  فقد كشف النقاب عن سرقة ونهب عدد من المتاحف القومية والولائية والمتخصصة على رأسها المستودع الأثري الرئيسي بمتحف السودان القومي، وأكد مدير الاثار ونوابه بأن عمليات سرقة محتويات المتحف القومي بدأت منذ أغسطس 2023 إثر اقتحام مليشيا “الدعم السريع” المتحف والاستيلاء عليه واستمرار بقائها في هذه المنطقة. ويعتبر متحف السودان القومي أهم وأكبر متاحف السودان الذي يضم مستودعاً لجميع آثار البلاد بكل محتوياتها التاريخية الثمينة وأهميتها البالغة التي لا تقدر بأي ثمن. وقد افتتح المتحف لأول مرة في عام 1904 في جامعة الخرطوم الحالية، ثم أعيد افتتاحه مرة أخرى بمقره الحالي على شارع النيل في الخرطوم في عام 1971، ويحوي المتحف قطعاً ومقتنيات أثرية تمثل جميع فترات الحضارة السودانية منذ ما قبل التاريخ والفترات التاريخية وحتى الفترة الإسلامية.(تقرير الهيئة العامة للاثار والمتاحف السودانية: 2024)، ولا تزال مليشيا “الدعم السريع” تتخذ المبنى مقراً لها.

مناقشة الأزمة

يظهر بوضوح الغياب المؤسسي الفاعل منذ بداية الازمة حيث كانت الأولوية للأرواح والأمن والسلامة ولكن ردة الفعل من الجهات المسؤولة منذ بداية الحرب لم تكن بالقدر الكافي لأنه لم يتوقع أحد أن يطول امد الحرب وان تطال المتاحف والمواقع الاثرية ومن ثم تنتقل الى عدة اقاليم . ويدور سؤال جوهري عن حقيقة الوضع، فهل نحن الآن في مرحلة الحفاظ علي التراث؟! ام أننا سلفاً فقدنا معظم التراث في بعض المتاحف، بالتالي فإن الكارثة حدثت بالفعل ولا يوجد مجال لتلافي حدوثها، فربما من الأفضل السعي للحفاظ على ما تبقى وخاصةً ما هو في باطن الارض الغنية بالتراث. كذلك التركيز علي كيفية إحتواء الأزمة، وإستعراض حجم الضرر والمفقودات ووضع خطط لإعادة الإعمار. وعموماً لم يكن دور الجهات الرسمية والمحلية فعالاً منذ بداية الازمة، هل لأن التراث ليس ذي قيمة لهم؟ أم لاننا لم نسوق للأزمة بصورة فعالة بالتالي لم تلتفت الأنظار إليه فلم يجد الاعتبار الكافي؟.

من الخطوات التي كان يجب أن تتم منذ اول ايام الحرب هو وضع اتفاق بعدم المساس بالمتاحف والتراث وتسهيل عملية النقل والترحيل عبر اليونسكو، ولكن حتى البعثات العاملة في السودان لم يكن لها دور ملموس. وكذلك منظمة اليونسكو المعنية بحماية الآثار، لم تتحرك كما لو أن الأمر لا يعنيها، أو على الأقل، لم تدق ناقوس الخطر مثلما فعلت في أوكرانيا، حيث بذلت مع مؤسسات الدولة في كييف الكثير من الجهود لنقل القطع الثقافية بعيدًا عن الخطر، منها ملاجئ لا تزال سرية، وتم نقل الأشياء المعبأة في صناديق، أما في السودان فلا أحد يعبأ، ولا يبدو أن للآثار التاريخية والمواقع الثقافية أهمية لديهم.

صورة توضح متحف السودان القومي من الخارج (تصوير أحمد آدم)

التحديات: إن أفضل مخرج من الأزمة فانه ينبغي النظر في الأساليب التالية

  • كيفية استعادة الممتلكات المسروقة وتحديد حجم الضرر بالوصول الى المتاحف بالخرطوم.
  • تعزيز أمن المتاحف حيث سُرقت بعض القطع عدة مرات في السنوات الماضية خاصة من المواقع الأثرية والمتاحف الإقليمية، حيث يجب تأمين المتاحف بتصميم مخازن آمنة تحت الأرض، كما يجب التضامن والعمل جنباً إلى جنب مع أقسام الآثار بالجامعات الوطنية والدولية والمتاحف العالمية. (يجب أن نتعلم من درس الحرب القاسي).
  • ايجاد وسيلة للتمويل لانقاذ المواقع المهددة بالفيضان والزحف الصحراوي والتنقيب عن الذهب
  • يتلقى مكتب اليونسكو بالسودان الدعم من صندوق الطوارئ لحصر المقتنيات وإنشاء قاعدة بيانات لخمسة متاحف (الجزيرة، سنار، البركل، مروي، كرمة) لم يكتمل بعد، فهناك ضرورة لتكملة الأرشفة الإلكترونية، فقد أنشأت الهيئة القومية للآثار والمتاحف مركزًا للأرشيف الرقمي لأرشيف هينكل في ألمانيا بالتعاون مع ﻤﻌﻬﺪ ﺍﻵﺛﺎﺭ ﺍﻷﻟﻤﺎﻧﻲ, بعد ذلك، لم يتم أرشفة كل المتاحف حتى حدوث الازمة باستثناء التوثيق الإلكتروني، وهو متقطع وغير منظم، وقاعدة البيانات نفسها لم يتم تعبئتها، ربما ضاعت في هذه الحرب هذه مشكلة كبيرة جدًا وواحدة من مشاكل المتاحف السودانية لأن جميعها ليس لديها قاعدة بيانات مناسبة. فقد تم أرشفة 50% فقط من محتويات المتحف القومي بالكامل، أما المتاحف الأخرى فلم يتم أرشفتها، ولكن هناك توثيق على بطاقات وقوائم جرد بعض الآثار الموجودة في المستودعات.
  • لابد من الاستمرار في استكمال الأرشفة الإلكترونية لجميع المقتنيات الأثرية الموجودة بالهيئة ومخازن البعثات والاحتفاظ بنسخة منها على سيرفر هيئة الاتصالات القومية وفي مخازن الإنترنت.هناك قطع فريدة في المتاحف الدولية ولكن لا يوجد نسخة في متحف السوداني القومي. كما أن هناك العديد من المتاحف في السودان ولكنها لا تقوم بدورها الكامل في المجتمع مثل الثقافة والتعليم ونشر الوعي والمحافظة على التراث القومي وغيرها

النتائج والرؤى المستقبلية

إن ضرر هذه الحرب الكارثية على آثار وتراث السودان لم يقتصر فقط  على المواقع الاثرية لكنه شمل التراث السوداني غير المادي، ومن الملاحظ أنه لم تتمكن هيئة الآثار حتى الآن من معرفة مصير المتحف القومي بالخرطوم وبالتالي لابد من مناشدة الجهات ذات الصلة والمنظمات العالمية ولا سيما يونسكو وإيكروم، والأمم المتحدة وغيرها من المنظمات المهتمة، بجانب ضرورة أن تنشط عمليات الحماية الشعبية والمجتمعية للحفاظ على ما تبقى من آثار وأهمية تنظيم عدد من الحملات التوعوية الهادفة إلى تنبيه المواطنين السودانيين لأهمية إرث أجدادهم الذي يعد جزءًا أصيلًا من هوية المجتمع السوداني.

أطلق المكتب الإقليمي لهيئة الآثار والمتاحف السودانية بجزيرة مروي، نداءً دولياً ناشد فيه، بصفة خاصة، منظمة “اليونسكو” وهيئة متاحف قطر، لحماية أهرامات مملكة مروي التي تتعرض لعوامل تعرية تعرضها لخطر الانهيار واندثار نقوش تمثل جزءاً من قيمتها الاستثنائية ورمزاً للهوية السودانية. وأشار النداء إلى أن تراكم الرمال حول الأهرامات هو الخطر الأكبر، وهو ما تسبب في تسرب الرطوبة إلى جدران المعابد الجنائزية ولا بد من معالجات عاجلة للحفاظ على جزء مهم من تراث الأمة السودانية. كما أن النهج التعاوني القوي الذي عملت به من قبل هيئة الآثار والمتاحف والمؤسسات الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية مثل جمعية العلوم الأثرية (س.ا.س) معًا، سيكون مفيدًا للغاية اذا استمر، ولدى علماء الآثار السودانيين العديد من الخطط، بما في ذلك مراكز المتاحف الإقليمية والرقمنة والحفظ حيث تم عقد عدد من الورش للمشاركة والتوعية المجتمعية في كريمة ودنقلا وشندي وبورتسودان وقد كانت نتائجها فعالة ومهمة.

يواصل السودان ترسيخ هويته. في هذه اللحظة، وهناك العديد من علماء الآثار يخاطرون بحياتهم لحماية التراث. ولكننا نود أن نطلق نداء اخر وعاجل نيابةً عن جميع علماء الآثار السودانيين إلى جميع أنحاء العالم لإنقاذ ما تبقى من التراث والمتاحف في السودان.


المراجع 

الجمل، شوقي: تاريخ سودان وادي النيل، القاهرة، 1967 م

النور، أسامة عبد الرحمن: تاريخ السودان الحديث، الخرطوم، 2006

مسعد، مصطفي محمد: المكتبة السودانية العربية، القاهرة، 1972م

   (https://www.arabarch.org/) موقع اتحاد الاثاريين العرب

https://whc.unesco.org/ar/list/1073 قائمة التراث العالمي – السودان

تقرير ( محاضرات وإفادات) مكتب الطوارئ بالقاهرة والتابع للهيئة العامة للاثار والمتاحف السودانية 2024، تقرير غير منشور


References

Adams, W. Y., 1977: Nubia corridor to Africa, London.

Reisner, G. A., 1919: Outline of the Ancient History of the Sudan, SNR, pt IV. Vol. 2. No. I, Khartoum, pp. 35–67.

Brass, M.; Adam, A. et al., 2018: First season of the UCL – UoK – NCAM Expedition to the Southern Gezira (Sudan): Jebel Moya.


About the Author

Ahmed Adam is Associate Professor of Archaeology at the University of Khartoum. He has previously been the Head of the Directorate of University Museums and the Head of the Department of Archaeology at University of Khartoum. He has directed and co-directed several archaeological fieldwork projects in Sudan: among others, the Red Sea Project for Archaeological, Cultural, and Environmental Studies, and the UCL UofK Expedition to central Sudan. Ahmed is coordinator and board member of the General Union of Arab Archaeologists, and has received Fellowships and grants, for example, at the University della Svizzera italiana, Lugano, and at the Forum Transregionale Studien in 2015/16 in the framework of the research program Art Histories and Aesthetic Practices, and has been Honorary Associate at University of Exeter. He has published several articles within the field of archaeology in regional and international magazines. In the academic year 2023/24, Ahmed was a EUME Fellow at the Forum Transregionale Studien and is affiliated with the German Archaeological Institute and the Egyptian Museum in Berlin.


Citation: Ahmad Adam, ,التراث الثقافي السوداني بين مخاطر الحرب والغياب المؤسسي الفاعل (Sudanese cultural heritage between the dangers of war and the absence of an effective institutional presence), in: TRAFO – Blog for Transregional Research, 15.04.2025, https://trafo.hypotheses.org/56615


OpenEdition suggests that you cite this post as follows:
Forum Transregionale Studien (April 15, 2025). التراث الثقافي السوداني بين مخاطر الحرب والغياب المؤسسي الفاعل. TRAFO – Blog for Transregional Research. Retrieved April 20, 2025 from https://doi.org/10.58079/13r7v


Forum Transregionale Studien

The Berlin-based Forum Transregionale Studien promotes the internationalization of research in the humanities and social sciences. It provides scope for collaboration among researchers with different regional and disciplinary perspectives and appoints researchers from all over the world as Fellows. More...

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.